[ad_1]
أكل مسكوف مع صدام.. قصة جاك شيراك الذي “أسره الشرق”
“لديّ معنى عربي للصداقة”! كانت هذه إجابة الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، الذي يوارى الثرى اليوم بالقرب من نابليون بونابرت عندما سأله البروفسير اليهودي “جيرار إسرائيل” عن سر علاقته الممتدة بالعرب والعالم العربي.
المعنى العربي الذي قصده جاك شيراك هو توصيف فرنسي بامتياز وأسلوب عرفت به الثقافة الفرنسية في نظرتها للعالم والشعوب.
كان جاك شيراك يريد أن يضع علاقته ـ كزعيم فرنسي صاعد آنذاك ـ مع العالم العربي في شكل “عاطفي وإنساني” لن يؤثر لاحقاً في تعامله كسياسي تفرض عليه السياسة مواقف لا تمت إلى العواطف بصلة. وكان هذا تقريباً الذي فعله جاك شيراك طوال حياته السياسية مع العرب ما دفع الدبلوماسية الفلسطينية المخضرمة ليلى شهيد إلى وصف تلك العلاقة بـ”علاقة المحبة والمصالح”. على أن شيراك كان لديه طموح في وراثة العهدة الديغولية وهو القائل في تأبينه لشارل ديغول “لقد تركنا ديغول ولكننا لن نتركه”.
موضوع يهمك
?
يبقى جاك شيراك الذي جمعته على مر العقود صداقات بزعماء من العالم العربي، الرئيس الفرنسي الذي رفض في عام 2003 المشاركة في…
جاك شيراك.. رئيس فرنسا الذي رفض الحرب على العراق عام 2003
العراق
لكن عندما كتب جاك شيراك مذكراته وعنون الجزء الأول بـ”كل خطوة يجب أن تكون هدفاً” فإن المعنى العربي للصداقة قد يأخذ أيضا بعداً أوروبياً.
علاقة جاك شيراك بالعرب لم تكن محل جدل لليهود أو العرب فحسب بل تحولت إلى قصة فرنسية اجتهد في تفسيرها الصحفيان الفرنسيان، أريك آيشمان، وكريستوف بولتانسكي، المحرران بصحيفة ليبراسيون وألفا كتاباً بعنوان مثير للجدل أطلقا عليه “شيراك العرب” في إشارة غير بريئة إلى القصة الرائجة في الغرب عن “لورانس العرب” التي سارت بها الركبان وتحولت إلى فيلم شهير جعلت أي علاقة لمسؤول أوروبي كبير تقوم على ما يشبه الخداع أو الاستغلال أو خدمة المصالح العليا في ثوب شفاف من العواطف الجياشة والتصوير الكلاسيكي الرومانسي للشرق كما وصف المفكر الفلسطيني الشهير إدوارد سعيد في كتابيه “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية” اللذين أثارا قلقاً عظيماً في الغرب.
ينقل المؤلفان عن شيراك أنه “يصافح بحرارة ويقبل ويعانق ويبدو الفرح بعينيه مع العرب أكثر مما هو مع غيرهم”، وبحسب تفسير الكتاب فإنه “لا يحب الغرب ومأخوذ بالشرق” لكن الكتاب ينفذ إلى نقطة جوهرية وهو أن شيراك كان “ممزقاً في هذه العلاقة بين متطلبات التعقل الاستراتيجي والشجاعة الظاهرية في الواجهة” التي تدفعه لمواقفه العاطفية تجاه العرب.
وهذا ما تفسره الدبلوماسية الفلسطينية ليلى شهيد التي عملت على مدى 10 سنوات سفيرة لبلادها في الاتحاد الأوروبي إبّان العهد الرئاسية لشيراك بالمصالح التي تربط فرنسا بالعرب بحكم الموقع الجغرافي.
شيراك وصدام والمسكوف
العواطف الجياشة والإعجاب الذي يكنه جاك شيراك للعرب والزعماء الذين ارتبط بهم لم يكن ليأخذ ذلك البعد الأسطوري لولا الموقف الصلب الذي اتخذه من غزو العراق من جانب الولايات المتحدة الأميركية في بداية الألفية الثانية (2003) ومواقفه من الفلسطينيين التي “أضاءت الطريق” بحسب وصف ليلى شهيد. لكن قبل ذلك بعقود ربطت جاك شيراك بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين علاقة مثيرة للجدل وتعكس صور كثيرة من الأرشيف علاقتهما الوثيقة التي لا تراعي البرتوكول السياسي المتحفظ فعادة هما يسيران متماسكي الأيدي أو يضحكان بمرح أو يتبادلان الأنخاب لكن الموقف الأكثر وضوحاً في تجسيد تلك العلاقة عندما تناولا العشاء معاً في باريس على مائدة عامرة بسمك “المسكوف” العراقي، الطبق الشهير في بلاد الرافدين.
وعندما لاحظ صدام “شره” الرئيس، حمل لاحقاً طائرة ووضع على كل مقعد حوض سمك طازج من شط العرب ومعها طاقم من أمهر الطهاة كهدية شخصية.
لكن شيراك الذي رسم العلاقة الفرنسية ـ العراقية رد التحية بأحسن منها كما سنرى لاحقاً.
الطموح والمال والنخوة
أفرد شيراك مساحة كبيرة في مذكراته لوصف تلك العلاقة يقول عن صدام فيها “كان يبدو ذكياً وبشوشاً، يستقبلني في منزله ويعاملني كصديق شخصي، وحرارة استقباله لا يمكن أن تخفى على أحد، ولقاءاتنا كانت تتم في ظروف ودية جداً”.
التقى شيراك بصدام عندما كان مسؤولاً عن التفاوض مع العراق حول اتفاقيات تعاون في مجال الطاقة وفي المجال العسكري ثلاث مرات، الأولى سنة 1974 في أول زيارة له لبغداد والثانية في باريس عام 1975 في أول زيارة لصدام لباريس ومرة أخرى سنة 1976 برفقة وزير التجارة في طريقهما لزيارة رسمية إلى الهند.
يقول شيراك “ابتداءً من سنة 1974، أصبح التبادل الصناعي والعسكري كثيفاً بين البلدين. في أكتوبر تم استقبالي بترحاب كبير من طرف صدام حسين ببغداد من أجل التفاوض حول عقود جديدة. رغم أنه أخذ السلطة في ظروف أقل ما يقال عنها إنها عنيفة جداً، لكن المسؤول العراقي كان يتمتع بشعبية كبيرة في العالم العربي، ويلتقي معه المسؤولون الغربيون”.
كان لصدام رغبة في التخلص من الوصاية السوفيتية لهذا راهن على شيراك لمساعدته على تحقيق تلك الاستقلال، لهذا كما قال شيراك فإنه كان “يفعل كل شي للتعبير عن صداقته”.
لكن لكليهما كانت هنالك أهداف شخصية.. كان صدام يمهد الطريق للعرش وبناء مجد تاريخي وكان شيراك يبحث عن المال والنفوذ للحفاظ على العهدة الديغولية وتقديم نفسة كوريث شرعي لهذه العهدة، لذلك يشير الكتاب بما يشبه “اللمز” إلى أن كل ذلك توافق مع بداية شيراك في بناء مشروعه السياسي الخاص يعبد له طريق الإليزيه.
يواصل شيراك في سرد الفصول المثيرة لعلاقته برجل قاده طموحه إلى “تحطيم كل ما قام ببنائه في سنوات قليلة” يقول في مذكرات عن تلك العلاقه “في عام 1975 استقبلت صدام بباريس وقمنا معاً بزيارة محطة نووية قبل أن نتم لقاءنا بنهاية الأسبوع كما جرت العادة في السابق بعشاء في أحد مطاعم قصر فرساي، حيث قلت لصدام شخصياً إن فرنسا مستعدة لمساعدته برجالها وتقنياتها وخبراتها”.
بالفعل وفّت فرنسا وقامت بمساعدة صدام حسين في تحقيق حلمه ببناء مفاعل “تموز” الذي كانت له إسرائيل بالمرصاد ودمرته بعد سنوات قليلة من إنشائه عام 1981.
كان صدام يبحث عن خلق قوة عسكرية ضاربة وكانت فرنسا تبحث مصالح كبيرة مع بلد يتمتع بثروات بترولية كبيرة، وقد ضمن لشركة “توتال” نصيب الأسد في البترول العراقي وتوج ذلك الطموح ببناء مفاعل تموز.
لاحقاً صنع صدام طبقة رفيعة من العلماء أشاد بها شيراك وبنى قصوراً فخمة على الضفاف الناعسة لأحد نهري بغداد وبدأ في بناء جمهورية واعدة ألهمتها فرنسا كل شي سوى الديمقراطية.
مع ذلك، فلقد هبّ شيراك بكل ما يملك فرنسي من فن الخطابة لإنقاذ الرجل الصديق الذي وصفه بـ”صاحب النخوة”، عندما قرر جورج بوش وضع النهاية لطموحات صدام وأوفد وزيره المفوه دومينيك دولفبان للتذكير بمآسي الحرب. ولكن الخطبة الرفيعة التي ألقاها ذهبت أدراج الرياح وعندما أوشكت الواقعة خاطب شيراك جورج بوش بوجه حزين وتمنى أن تكون “حرباً سريعة لا تسفك فيها أرواح الأبرياء”.
لكن ذلك لم يحدث بل زهقت حتى روح صديقه ما جعله ينتفض بغضب ويكتب عن موته “صدمت عندما رأيت الطريقة التي عومل بها هذا القتيل الذي كان بنفس الهمجية التي اتهم بها صدام والتي لوحق من أجلها”.
مؤلفا الكتاب ـ وإمعاناً في التشكيك العميق بعلاقته مع العرب ـ كانا يعتقدان أن شيراك كان لديه الكثير ليفعله غير الـ(لا) المغلظة للأميركيين والأحضان مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لكن ليلى شهيد تجد له العذر وقالت في شهادتها عنه بحزن “ماذا يستطيع أن يفعل؟ فرنسا ليست دولة عظمى ولن تفعل شي من دون العمل مع الأوروبيين والأميركيين”.
بيد أن الصحافيين إريك ايشمان وكريستوفر بولتانسكي ألمحا، على الطريقة الفرنسية التي تجعل الباب موارباً، إلى أن “السياسة الفرنسية التي حاول جاك شيراك تطبيقها مع العرب تبقى مشوبة بشك مبرر هو أنها ليست ليست سوى محاولة لإحياء عظمة مفقودة”.
[ad_2]