دعوني أحكي لكم في البداية 3 مواقف حدثت لي خلال الأشهر الماضية لتكون مدخلاً لهذه المقالة، جميع تلك المواقف متعلقة بأدوات وأجهزة المنزل، فقد حصل عطلٌ صغير للثلاجة قبل عدة أشهر، وعلى إثره سألت عن أفضل مهندس في المنطقة متخصص في هذا الأمر، دلوني على أحدهم وأعطوني رقم تلفونه، حاولت التواصل به فاعتذر لي وأخبرني بأنه يوم إجازته، ثم تواصلت به اليوم التالي فاعتذر لي وأخبرني أنه في مهمة عمل وطلب مني الإتصال به آخر النهار.
كنت قبلها أبحث عن مهندس متخصص في إصلاح الثلاجات أو الأجهزة المنزلية عبر بعض تطبيقات الهاتف الذكي، وهي تطبيقات متخصصة في التواصل مع أصحاب المهن (مهندسين – سباكين – نجارين …الخ) في المنطقة أو المدينة المحددة، لكن هذه التطبيقات لازالت تفتقر إلى الانتشار وإلى اتساع رقعة المستخدمين من قبل كلا الطرفي: أصحاب المهن والباحثين عنهم.
للأسف لم أستفد من تلك التطبيقات في التواصل مع مهني متخصص في هذا النوع من المشاكل، كما أني لم أصبر حتى يتفرغ المهندس القريب ثم يلتفت إلي، لذلك قررت أن أقوم باداء العمل بنفسي، فأنا أمتلك بعض أدوات وعدة الصيانة، وإن احتجت لشيء آخر فسوف أشتريه بدون مشاكل، لكن كان هنالك شيء مهم ينقصني: الخبرة.
الموقفان الأخريان لهما نفس السيناريو، فقد أصاب المكيف عطلٌ بسيط فبات يُخرجُ الماء من فتحة التهوية، وقد -أيضاً- تعطل خلاط المياه في الحمام، وقد تمكنت بحمد الله من حل تلك المشاكل بنفسي وبدون اللجوء إلى المهندسين والسباكين، لقد اكتشفت أنها مشاكل بسيطة في أصلها، لكنها لم تكن كذلك في عيني قبل أن أتوجه إلى ذلك الحل السحري الذي أعطاني المعلومة على طبق من ذهب وأرشدني إلى كيفية الإصلاح بكل سهولة، بالطبع عرفتم ماهو، إنه بلا شك (اليوتيوب).
تَرَكَ السباكة وتوجه إلى اليوتيوب
كنت أرى خلاط المياة كأحجية صعبة الحل، لم أتمكن من الولوج إلى الداخل كي أتعرف على أصل المشكلة، فلم أكن أعرف كيف يتم فكه، عبارة عن كتلة من الحديد المتين الذي يصعب فك أجزاؤه عن بعضها، لكن بعد جولة قصيرة في اليوتيوب تعرفت على ذلك السر الصغير، فتحة مخفية تؤدي بك إلى البرغي المختبئ بالداخل، إنه سر التفكيك الذي لا يتم البدء إلا به.
انطلقت في مشاهدة الفيديوهات واحد تلو الآخر، فيديوهات عربية وأجنبية تشرح لك طريقة إصلاح الخلاط وطريقة استبدال القطعة البلاستيكة التي في الداخل بأخرى جديدة، فأغلب المشاكل ناتجٌ منها، لم أكن أعرف أن هنالك قلب بلاستيكي قبل مشاهدة تلك الفيديوهات، أما من ساعدني في فك طلاسم الخلاط فهم -على الأرجح- سباكون محترفون قرروا أن ينشروا بعض خبرتهم للجميع عبر منصة اليوتيوب.
يمكن أن تجد بعض صفحات الويب التي تشرح لك طريقة إصلاح ذلك الجهاز أو تركيب تلك القطعة، لكن يبقى المحتوى المرئي أفضل بكثير من المحتوى النصي عند شرح الطرق العملية، فأن تشاهد خيرٌ من أن تقرأ، كما أن النشر في اليوتيوب أصبح سهلاً مفتوحاً لأي شخص، والتصوير أصبح من ضروريات العصر الحديث، كل شخص لديه هاتف وكاميرا مدمجة، ما عليه إلا تصوير نفسه وهو يقوم بالعمل لينتج عن ذلك فيديو يستفيد منه الآلاف حول العالم.
لا يقتصر الأمر على السباكة أو على بقية المهن والحرف الأخرى، لقد أصبح الكثير من الأشخاص هذه الأيام حين يودون تعلم شيء جديد فإنهم يتوجهون إلى هذه المنصة العملاقة (اليوتيوب) التي تمتلئ بما يخطر وما لا يخطر على البال، فخذ على سبيل المثال فيديوهات تعلم اللغة الانجليزية، فهنالك عشرت القنوات المميزة المتخصصة في هذا الأمر، سواءً العربية أو الأجنبية، وهنالك قنوات متخصصة لتعلم البرمجة، وأخرى للتصميم والرسم، وقنوات لتعلم السباحة، وغيرها الكثير من القنوات التعليمية المتخصصة.
بعد كل ذلك المحتوى التعليمي الدسم والمعروض بالمجاني هل سيفضل الشخص منا التعلم والدراسة عبر اليوتيوب أو دفع بعض المال والتسجيل في الدورات المتخصصة ؟ الكثير منا سيتوجه لليوتيوب، وخاصة أنه يوفر علينا مشوار المواصلات ويعطينا مرونة في الوقت .. فهل يتسبب اليوتيوب -فعلاً- بقطع الأرزاق ؟
اليوتيوب كمصدر للدخل والشهرة
ذلك السباك الذي نشر ذلك الفيديو الذي يُخرِج فيه بعض أسرار المهنة، قد يكون الدافع الأول له هو من أجل نشر العلم النافع، مشاركة إخوانه من بني البشر ما يمتلكه من خبرة في مجال يحتاج إليه كل صاحب بيت ورب أسرة، أو قد يكون الدافع الأساسي هو لكسب المال، نعم، فربما أنه قد ترك السباكة وقرر العمل على اليوتيوب، فتلك الفيديوهات يمكن أن تصبح واحدة من مصادر دخله -إن هي اشتهرت- عبر الاعلانات الرقمية التي تظهر فوقها وحولها، فالعم قوقل ومنصته يرحبون بالجميع ويشاركون الأرباح مع كل من ينشر لديهم، سواءً كانوا سباكين أو أطباء، أو حتى أناسٌ عاديون يثرثرون بما لا فائدة منه.
في حقيقة الأمر أن من ينشر الفيديوهات التعليمية هو أول المستفيدين، ليس فقط عبر برنامج الشراكة مع اليوتيوب (ومن ثم الربح من الاعلانات)، لكن أيضاً لأن صانع المحتوى يسوق لنفسه ويصنع له جمهوراً يثق به، ذلك الجمهور الذي لن يتردد يوماً في التواصل به عند وجود مشكلة كبيرة أو عندما يحتاج لاستشارة في مجال تخصصه، فعبر قناته، يصيغ -صانع المحتوى- شهادة خبرته في مجاله، فهو لم يعد بحاجة لأن يعمل عند شركة تأسره في قفصها المربع من أجل شهادة خبرة تدعم موقفه عند مواجهته للحياة العملية في الخارج، فقناة اليوتيوب كفيلة بذلك.
كما أن الشهرة في شبكات التواصل الاجتماعي يمكن أن تُستثمر في تحقيق عائد مالي بطرق عديدة، مثل التسويق لمنتجات الآخرين أو تقديم دروات مدفوعة أو كتب رقمية قابلة للتحميل، وغيرها من الطرق التي عرضناها في مقالة سابقة، أما الفوائد المعنوية من وراء النشر في اليوتيوب فهي عديدة كذلك، أهمها أن صانع المحتوى يطور نفسه ويزيد من خبرته كلما نشر وتفاعل مع الجمهور، فالنشر في اليوتيوب يعد أهم الدوافع للاستزادة من العلم، كي يجيب على استفسارات المشاهدين ويعطيهم المزيد.
الأمر الآخر الذي لا يجب أن نغفل عنه، انه ليس جميع الأشخاص هم من النوع الذي يحب إنجاز الأعمال بيده، فهنالك الكثير ممن يعرفون كيف يصلحون الأشياء لكنهم لا يودون ذلك، ربما بسبب ضيق الوقت أو الكسل أو حتى لوجود المال الوفير الذي يمكن أن يجلب أفضل الفنيين إلى المنزل أو مقر العمل بدون تعب أو نصب.
ختاماً … إن كان هنالك من قطع في الأرزاق، فهو ليس بسبب اليوتيوب ولا حتى التقنية التي أتت باليوتيوب إلى الساحة، أيضاً ليست تلك الروبوتات أو الذكاء الإصطناعي القادم في الآفاق هو من قد يهدد الناس في أرزاقهم، فكل تلك التقنية هي من أجل الإنسان أولاً وأخيراً، لكن القضية هي عدم التعامل معها بالطريقة الصحيحة، فالإنسان الآلي ما وجد إلا ليحل محل البشر في المهام الروتينية البسيطة، من أجل أن يتفرغ الإنسان للأمور العظيمة، لذلك فالمطلوب من الفرد -في أي مهنة أو تخصصٍ كان- هو أن يواكب التطور ويعيش الواقع من حوله، وأن ينتقل إلى الأدوار العليا كلما انتقلت البشرية خطوة إلى الأمام، وسيجد أن مع كل باب رزق يغلق، هنالك عشرة أبواب جديدة تفتح.